تعتبر القوارب المسيّرة سلاحًا فتاكًا ورخيصًا يغير قواعد اللعبة في الحروب البحرية الحديثة حيث تتميز هذه القوارب بقدرتها على تنفيذ مهام معقدة دون الحاجة إلى طاقم بشري مما يقلل من التكاليف ويزيد من الكفاءة في العمليات العسكرية كما أن استخدامها في النزاعات البحرية يفتح آفاقًا جديدة للتكتيكات الحربية ويعزز من أهمية التكنولوجيا المتقدمة في الدفاع والأمن البحري الأمر الذي يجعلها عنصرًا حاسمًا في رسم مستقبل الحروب البحرية حول العالم.

مستقبل الحروب البحرية: مناورات “ريبيموس”

تتسارع الأحداث في عالم الحروب البحرية، حيث تعصف الرياح كالسيف وتتعاقب الأمواج كجدران من الماء، وفي خضم هذه الفوضى، رصد الطيارون جسمًا رماديًا ينزلق بسرعة فوق سطح البحر، هذا المشهد، كما ذكرت صحيفة “تليغراف”، هو جزء من تمرين عسكري يهدف إلى محاكاة مستقبل الحروب البحرية، حيث تُستبدل الأطقم البشرية بروبوتات بحرية تملأ الأفق وتعيد تشكيل ملامح القتال في المحيطات، في قاعدة بحرية جنوب لشبونة، احتضنت البرتغال مناورات “ريبيموس”، التي تُعتبر أكبر مختبر تجريبي للأنظمة البحرية غير المأهولة في العالم.

شارك في هذه المناورات ضباط من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومهندسون من الشركات الرائدة في التكنولوجيا الدفاعية، في تمرين ضخم استمر ثلاثة أسابيع، وتغطى مساحة بحرية تعادل مساحة لبنان، والهدف من هذه التجربة لم يكن القتال بل التعلم، حيث تم اختبار التكتيكات الجديدة وصقل المفاهيم التي ستشكل ملامح المعارك البحرية القادمة، لذا فإن هذه المناورات تمثل نقطة تحول في كيفية التفكير في الحروب البحرية.

ولادة سلاح جديد: القوارب المسيّرة في المعارك الحديثة

عندما شنت أوكرانيا في عام 2022 أول هجوم باستخدام طائرات وقوارب مسيّرة على الأسطول الروسي في ميناء سيفاستوبول، بدا أن العملية كانت مغامرة يائسة، لكن المشهد تغير جذريًا خلال ثلاث سنوات فقط، إذ أجبرت القوارب الأوكرانية الصغيرة، الأسطول الروسي على الانسحاب إلى نوفوروسيسك، مما أعاد تعريف مفهوم السيطرة البحرية في القرن الحادي والعشرين، ولم تعد هذه القوارب مجرد أدوات انتحارية، بل أصبحت منصات هجومية ذكية قادرة على حمل صواريخ مضادة للطائرات والسفن، بل وحتى إطلاق طائرات صغيرة من على سطحها.

يقول أحد الضباط البريطانيين المشاركين في المناورات: “أوكرانيا لم تغيّر أسلوب الحرب فقط، بل قلبت ميزان البحر رأسًا على عقب”، في ظل هذا التغير، يتسابق العالم من واشنطن إلى بكين، ومن لندن إلى تايبيه لتطوير أساطيل بحرية بلا طواقم، حيث أطلقت الصين أكبر سفينة مسيّرة في العالم، بينما كشفت تايوان عن قوارب اعتراضية مستوحاة من “ماغورا” الأوكرانية، وتعمل الولايات المتحدة على نشر نسخ ضخمة من سفنها غير المأهولة في المحيط الهادئ.

ستارلينك… السلاح المزدوج في الحروب البحرية

تعتمد معظم القوارب المسيّرة حاليًا على شبكة أقمار “ستارلينك” التابعة لإيلون ماسك، التي توفر اتصالًا سريعًا ومستقرًا، لكنها تمثل أيضًا نقطة ضعف استراتيجية، ففي عام 2022، تعطلت الشبكة أثناء هجوم أوكراني على القرم، مما أدى إلى فشل العملية، ويقول فيل لوكوود، المدير التنفيذي لإحدى الشركات المشاركة في المناورات: “لا ينبغي أن يكون أمن دولة بأكملها رهينة قرار رجل واحد في وادي السيليكون”، لذا بدأت أوروبا في تطوير شبكات اتصال مستقلة تعتمد على تقنيات الجيل الخامس (5G) لضمان أمان الاتصالات العسكرية.

تحت هذه الثورة التقنية، تكمن حسابات اقتصادية ضخمة، فبينما يتجاوز سعر الفرقاطة الحديثة مليار دولار، يمكن لقارب مسيّر لا يتجاوز ثمنه 250 ألف دولار أن يدمرها في لحظة، وفق التقارير، هذه معادلة مغرية من حيث التكلفة، لكنها محفوفة بالمخاطر، ويقول أحد ضباط الناتو مازحًا خلال المناورات: “رأيت هذا الصباح شخصًا يركب لوح أمواج مزودًا بمحرك، في الحرب المقبلة قد يصبح هذا سلاحًا أيضًا”، هذه المفارقة تختصر التحول الجاري في العالم البحري، إذ لم يعد التفوق مرهونًا بحجم السفينة أو قوة محركاتها، بل بسرعة خوارزمياتها ودقة برمجتها، ومع اتساع رقعة المنافسة بين القوى الكبرى، يبدو أن سباق البحر الجديد لن يُحسم بمن يملك أكبر أسطول، بل بمن يملك أذكى خوارزمية.